حديث حول إرث مصر الحديث
لسنواتٍ عدةٍ درست الهندسة المعمارية, وفى هذه السنوات كانت هنالك قضايا دائماً ما تجول فى خاطرى, ولعل أبرز هذه القضايا هى فكرة الموروثات من كل شيء!
فأذكر أننى كنت دائماً وأبداً ضد أن يعيش الإنسان فقط على موروثاته ولا يتمكن من إضافة أو صنع الجديد ليترك هو الاخر موروثاً للأجيال من بعده, كنت ضد أن يتباهى أحدهم بممتلكات أجداده وهو بالكاد يسكن هو وأسرته فى شقة إسكان محدودى الدخل وبالإيجار, ولم ينل من التعليم سوى الشهادة الابتدائية !
ولكنه يطير فرحاً وتلمع عيناه عندما يخوض نقاشاً من خلاله يبرز ممتلكات اجداده الماديه والفكريه أو حتى بنسبه لعائلة ما, ولكن من جانبى أنا دائماً ما القى سؤالاً عليه فى خاطرى, وأنت؟ ماذا صنعت لنفسك وماذا تركت لمن أتو من بعدك؟! وكانت الإجابه دائما هى أنه لاشيء, لاشيء سوى بعض الذكريات بعظمة شيء من الماضى وفى الأغلب لم يعد موجوداً.
و بتطبيق هذا الفكر على الحضاره المصريه بأكملها مع الأجيال الجديده من الشباب نجد أن كل ما يتردد على مسمع هؤلاء هو التاريخ العظيم والإرث الذى تركه لنا الأجداد من مبانى عظيمة وممتلكات أثرية وفكرية وعلمية قيمة, ووجوب الفخر والإعتزاز بهذا الماضى العظيم, ولكن ماذا بعد! ماذا بعد الفخر والإعتزاز والتباهى والعوائد المالية الضخمه وراء كل هذه الموروثات العظيمه, أصنعنا المزيد ؟ هل أضفنا شيئاً ما يستحق الوقوف أمامه بنفس هذا الكم من الفخر والاعتزاز !
لذا فأنا دائماً ما اصطدم بهذا الواقع الأليم, والذى يجعل الأمر يزداد سوءاً هو أنه حتى هذه الطريقه فى التفكير والمنطق يتم توريثها للأجيال تلو الأخرى, فنجد أنه منذ بضعة قرون أظنها بعد الفتح الإسلامى لمصر وتتابع الحكام من بعده توقفت أرض الكنانة عن صنع المزيد من عناصر الحضاره, وبالتحديد الموروثات المعمارية, ويمكننى الجزم بأن أغلب من سيقرأ هذا المقال اما هو معمارى او لديه الحس المعمارى الجميل للنظر فى الأمر وأنه ذا عقل متزن ونظره ثاقبة للأمور, لذا سأطرح عليكم سؤالاً أرّقنى لأيام طوال, فى رأيكم أى المبانى المنشأه حديثاً تستطيع الدخول فى ركب الحضاره المصرية وتاريخها العظيم ؟!
و لعل الحقيقه التى لا يستطيع أحد منّا إنكارها هو أن لكل شيء أجل ونهاية محتومة, لكل شيء فى هذا العالم, تلك المستجدات التى رأيناها بأم أعيننا تحدث ولأول مره فى تاريخ مصر من كوارث بيئية تمثلت فى أعاصير وتغيير كبير فى درجات الحراره مقارنة بالسابق والأوبئة المنتشره, وحتى أيضاً شدة الفقر وتدنى المستويات الفكرية والثقافية عند الكثير من الناس والذى يمكن أن يتحول فى أى وقت الى كارثة كبيرة, فيمكننى من الآن تصور الهجوم الذى سوف يحدث على أهرامات الجيزه فيسرق كل منهم حجر ويجرّه عائداً الى بيته ليحاول بيعه, فتقوم إحدى الدول الغربيه والتى نعلمها جيداً بشرائها بأثمان بخسه, ثم تقوم ببناءه مرة اخرى عندها كما عهدنا منهم على مر التاريخ! لذا فإنه لا يضمن أى منّا ما هو التطور القادم وما هى شدة تأثيره على كل شيء من حولنا, ولعل هذا يقودنا هو الاخر الى الجزء الخاص بالحديث حول التطور التكنولوجى وأساليب البناء.
فرغم أن الموروثات المعمارية ضخمة وهائلة وذات ابداع متناهى فى أساليب البناء والنحت واستخدام خامات مناسبة واستقدام مواد البناء من جميع بلاد العالم, إلا أنها لا تقارن بشىء من الأساليب المتبعه أو بالخامات المصنعة حديثاً, وحقيقة الأمر أن البناء أصبح سهلاً أكثر مما قد مضى, وهنالك الكثير من الأعمال التى كانت مستحيلة تنفيذها فى الماضى وأصبحت متاحه فى العصر الحديث, فالفارق بيّنٌ بين ماضٍ سحيق ترك أعمالاً صُنفت الأعظم حول العالم بإمكاناته العتيقه, وحاضراً نال من التطور ما نال, ولكنه لم يزد سطراً واحداً فى كتب التاريخ عن إرث معمارى حديث ضاهى عظمة الماضى.