النَّظرة التي يرى المُجتمع من خلالها ا لمُدمن
من كان منكُم بلا خَطيئةٍ؛ فليرمها بحجر..
بالتحية والسلام أَشملُ جميع القُرَّاء، فالسلامُ عليكمُ ورحمةُ اللِّهِ وبركاتهُ.
في مساءِ يومِ الثُلاثاء الموافق للثاني والعشرين من كانون الثاني لعام ٢٠٠٨ حدثت كارثةٌ هزَّت الوسط الفنِّي بأكمله، حيثُ؛ عُثر على الفنان الاسترالي (هيث ليدجر) ميتًا بشقته بسبب تعاطيهِ لجُرعةٍ زائدةٍ من المُخدرات، وقد توفي عن عمرٍ يُناهزُ الـ٢٨ عامًا.
صرَّحت بعضُ المواقع بعدَ وفاتهِ أنَّ إفراطهُ في تعاطي المُهدئات الطبية كان سببه الضغط النَّفسي والعصبي الذي حاكاهُ عندما مثَّلَ مِثلَ هذه الشخصيةِ السيكوباتية (الجوكر)، بينما نفى أهلهُ تمامًا تلك المزاعمِ مؤكدين على حُبِّهِ لتمثيلِ هذه الشخصيةِ بكاملِ إرادته.. وبين هذا وذاك دعونا نطرحُ السؤالَ المحوريَّ هنا.. ”هل الضغطُ النفسي، والعصبيُّ، والألمُ الجسديُّ أسبابٌ كافيةٌ للإدمان؟!“.
الإدمان يعني اعتماد الشخص نفسيًا أو جسديًا على مادة معينة تُشعرهُ بالرضا، والارتياح.. قد تُنسيهِ مؤقتًا ذكرى تؤرقهُ، وقد تُزيلُ أرقه، أو قد تُزيلُ عقلهُ.. قد تجعلهُ أكثر حماسًا، أو أشدَّ كسلًا وفتورًا.. ومع الوقت تزداد الجرعة التي يحصل عليها هذا الشخص من تلكَ المادة للحصول على نفس المفعول.. وتلكَ المادة غالبًا ما قد تُسبب الوفاة في حالة الجُرعة الزائدة، أو تدهورًا صحيًا والإصابة ببعض الأمراض الخطيرة كالسرطان، وغيرهِ من الأمراض.. وقد يعجز الشخص عن إقامة علاقاتٍ اجتماعية أو تتفكك علاقاته الفعلية في ظلِّ ذهابِ عقلهِ وعد اتزانهِ إثرَ المادة التي يتعاطاها.. وقد تؤدِّي بهِ إلى بعض السلوكيات الجانحة التي لا تتَّفق وشخصيتهُ.. كالسرقة، والاغتصاب، والاعتداءات، والسلوكيَّات العُدوانيَّة.. إلخ.
ولكن في هذه المقالة ليسَ الإدمان هو المنشود.. بل المُدمن.. وكيفَ ننظرُ له؟!
سألتُ أحدهم ذاتَ مرَّةٍ.. ”ما النظرةُ التي تنظرينَ بها للمُدمنٍ؟!“ فأجابتني دونَ اكتراث: ”الازدراء بالطبع“.
هذه الإجابةُ في الحقيقةِ ليست إجابتها وحدها، بل هي إجابةُ أغلبِ النَّاس.. وسأكونُ غيرَ مُنصفةٍ هنا إذا وجَّهتُ النقدَ لهم، فمن منَّا يرغبُ في أن يُصادقَ مُدمنَ هيروين معرَّضٌ للموتِ في أيةِ لحظةٍ! والاختلاطَ به يعني أمرًا من اثنين إمَّا التأثُّر بهِ، أو التأثيرُ عليهِ!
لكن في نفسِ اللحظة التي ترى فيها مُدمنًا، وتبدأُ رحلتك في الخوضِ في عِرضه، وطريقك في التحقير من شأنهِ.. هل خطر في بالك ولو لثانيةٍ أن تسأل نفسك: ”ما الذي واجههُ هذا الشابُ الصغير، وتلك الشابةُ الصغيرة ليصل بهما إلى حدِّ تناولِ تلك المادةِ السامة؟!“. ”ما الذي جعل ذاك المُراهق ذو الـ١٨ عامةً يشربَ حبوب هلوسةٍ تجعلهُ فاقدًا لجزءٍ كبيرٍ من عقلهِ، مُخرجةً بتأثيرها إيَّاه عن واقعه؟!“ ”بل ما طبيعة الواقع الذي يعيشُهُ، وما مدى السوء الذي قد يجعلُ إنسانًا يرغبُ في فُقدانِ عقلهِ؟!“.
أنا لستُ هنا لاُبرر للمدمن إدمانهُ، فمن السفاهةِ أن أُبرر الإدمان، ومن السفاهةِ أيضًا أن ترى نفسكَ وليًا صالحًا لمجرد أنَّك لست مُدمنًا!
عندما يعلمُ أحدُ الوالدين أو كلاهما عن إدمان أحد أبنائهما.. ينطوي بداخلهما شعورٌ عميقٌ بالفشل.. الفشلُ في التربية، الفشلُ في التصرف، بل هذا الابن بحد ذاتِهِ فشل.
لكنَّ أغلبهم لا يسألُ نفسه.. ”ما الذي جعله ابني يقدمُ على ذلك؟!“، ”هل كنتُ أنا السبب، أم حدث لهُ أمرٌ جلل لم أكن على درايةٍ به؟!“.
نسبةٌ كبيرةٌ منهم لا تسأل، ولا تعرف، ولا تتفهَّم، فأولًا يُعنِّفون، يصرخونَ، ويضربون، ومن منازلهم يُطردون.. حالةٌ من اليأس تعصفُ بكيانِ الآباءِ تجاهَ أبنائهم، وتلك الحالةُ تنعكسُ عليهم، فتزيدُ حالتَهُم سوءًا، حالةُ هؤلاء الذين التجأوا لمادةٍ تُساعدهُم على فُقدانِ واقعهم، أو تخطِّيه، ومع الوقت تُصبحُ الجرعة نفسها بلا تأثير، فيُضطرون لزيادتها، وتظلُّ الدائرةُ مُتصلةً حتى يقضيَّ المُدمنُ نحبهُ ويموتُ بائسًا تعيسًا.
الكثيرُ من النَّاسِ تعتقدُ أنَّ أيَّ مُدمنٍ خطرٌ على المُجتمع، ويجبُ أن يظلَّ في المصحة العقلية لأعوامٍ حتى يُشفى! وهذا يجعلك تتساءلُ هل هم هُنا يُحاربون الإدمان أم ضحاياه؟! ورغمَ ذاك الاعتقاد، فإن فترة الشفاء تتراوحُ بين عشرة أيَّامٍ إلى ٦ِ أشهرٍ كحدٍ أقصى.. ثُمَّ وسريعًا يجبُ أن يُعاد ذلك الشخصُ إلى مُجتمعهِ وعالمه؛ حتى يُعطيهِ المُجتمعُ ما حرمهُ منهُ ليدفعهَ به إلى ذاك الاختيارَ المُتطرف.
فكُن عليهِ حانيًا، فغلظتُك لن تُجدي معهُ نفعًا، وكُن معهُ رحيمًا، فأنت لا تدري متى تزلُّ قدمكَ يومًا.
فإن كُنتَ تعتقدُ أنَّ الحياةَ ستُغطِّي خطاياك دومًا، فالدوامُ لمن سَتركَ حتى الآن ولم يكشفك مَلأً.
وتذكَّر أنَّ: ”علاج الأدمان مُمكنٌ دائمًا، وأنَّ العلاج لا يكمنُ في التوقف عن الإدمان، بل الأهم من ذلك هو الاستمرار في التوقفِ عن الإدمان، وذلك لا يكون إلا بعلاج الأسباب النفسية والعصبيةِ أو الجسدية التي جعلتهُ يُقدمُ على الإدمان“
وأختتمُ حديثي بقول المولى عزَّ وجل في سورة الحُجرات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
هذا واللّهُ وليُّ التوفيقِ.
والسلامُ عليكمُ ورحمةُ اللَّهِ وبركاتهُ.