فلسفة مفهوم "الصح والخطأ": حينما يصبح اليقين خاضعًا للشك

فلسفة مفهوم "الصح والخطأ": حينما يصبح اليقين خاضعًا للشك

0 المراجعات

فلسفة مفهوم "الصح والخطأ": حينما يصبح اليقين خاضعًا للشك

في حياتنا اليومية، نقوم بتصنيف الأمور إلى "صح" و"خطأ" بشكل تلقائي، وكأن هذه القيم ثابتة لا جدال فيها. نعلّم أطفالنا أن السرقة خطأ، والصدق صواب. نُدين الخيانة، ونمجّد الوفاء. لكن هل تساءلنا يومًا: من الذي يحدد ما هو "صح" وما هو "خطأ"؟ وهل هذه المفاهيم مطلقة أم نسبية؟ وهل الأخلاق ولدت معنا بالفطرة، أم أن المجتمع هو من صاغها؟ هذه الأسئلة ليست مجرد تأملات ذهنية، بل هي جوهر فلسفة الأخلاق منذ آلاف السنين.

بين المطلق والنسبي

يرى بعض الفلاسفة أن هناك مبادئ أخلاقية مطلقة لا تتغير بتغير الزمان أو المكان، مثل تحريم القتل أو التعذيب. هذا ما يدعوه البعض بـ"الأخلاق الكونية" أو "المعايير المطلقة"، ويعتقد أن العقل البشري قادر على تمييزها بالفطرة. هذا الاتجاه يعود إلى فلاسفة مثل أفلاطون وكانط، اللذين رأيا في الأخلاق جوهرًا ثابتًا لا يتبدل.

لكن في المقابل، هناك من يعتبر أن مفهومي الصح والخطأ نسبيان، يتأثران بثقافة المجتمع، وبيئته، وظروفه التاريخية. فالعادة التي تُعتبر فضيلة في مجتمعٍ ما، قد تُعدّ رذيلة في مجتمع آخر. خذ مثلًا قضايا مثل الزواج، الحريات الفردية، أو حتى طرق التعبير عن الحزن أو الفرح. أليست كلها تخضع لتقاليد تختلف من بلد لآخر؟ هذا ما يطرحه فلاسفة المدرسة النسبية، مثل ديفيد هيوم وميشيل فوكو.

الدين والفلسفة: تشابك القيم

الدين لطالما كان مرجعًا قويًا في تحديد مفاهيم "الصح والخطأ"، لكنه لا يعمل بمعزل عن السياق الفلسفي. ففي الأديان الإبراهيمية، نجد أن كثيرًا من القيم الأخلاقية تنبع من أوامر إلهية مثل: "لا تقتل"، "لا تكذب"، "أكرم والديك"، وهي تشكل قواعد واضحة للسلوك البشري. لكن حتى داخل الدين الواحد، تختلف التفسيرات. فقد يرى فقيه أن فعلًا ما محرّم، بينما يعتبره آخر مباحًا تحت ظروف معينة.

إذن، هل مفهوم "الخطأ" هو ما يُغضب الله؟ أم ما يُغضب المجتمع؟ أم ما يُغضب ضمير الفرد؟ هذه الأسئلة تُظهر تداخلًا معقدًا بين الإيمان، العقل، والتجربة الإنسانية، وتؤكد أن "الصح والخطأ" ليسا مجرد قائمتيْن جاهزتيْن نختار منهما.

الضمير: القانون الداخلي

ما يجعل الفلسفة أكثر عذوبة في هذا النقاش هو تسليطها الضوء على دور "الضمير" بوصفه البوصلة الداخلية للإنسان. كثير من الفلاسفة اعتبروا الضمير أداة الفرد في التمييز بين الصواب والخطأ، حتى في غياب قوانين خارجية. لكن حتى الضمير قد يُضلل أحيانًا بفعل التربية، أو الضغط، أو الخوف.

الصح والخطأ في عصر الذكاء الاصطناعي

في عالم اليوم، مع دخول الذكاء الاصطناعي في حياتنا، بات السؤال أكثر تعقيدًا: هل يمكن للآلة أن تميّز بين الصح والخطأ؟ وهل يمكن أن نبرمج الأخلاق؟ الأمر لم يعد نظريًا، بل أصبح واقعًا. فالمركبات ذاتية القيادة مثلًا قد تضطر لاتخاذ قرارات أخلاقية في لحظات فاصلة، وهو ما يعرف بـ"معضلة العربة" (Trolley Problem)، التي نُوقشت فلسفيًا لعقود.

في النهاية…

فلسفة الصح والخطأ ليست مجرد جدل أكاديمي، بل هي بحث عن معنى الحياة، والعدل، والحرية. هي رحلة تبدأ من داخل النفس وتنتهي عند حدود المجتمع. وما بينهما، تتشكل ملامح قراراتنا، ومواقفنا، وإنسانيتنا.

في زمن تكثر فيه الأصوات وتتعدد فيه الحقائق، من المهم أن نسأل أنفسنا دائمًا: لماذا أؤمن أن هذا "صح"؟ ولماذا أرفض ذاك باعتباره "خطأ"؟ فالفلسفة لا تعطي أجوبة نهائية، لكنها تمنحنا أدوات لطرح الأسئلة... والأسئلة هي بداية الوعي.

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

60

متابعهم

5

متابعهم

1

مقالات مشابة