
فاقد الشيء يعطيه.. وبشدة!
فاقد الشيء يعطيه.. وبشدة!
لطالما سمعنا المقولة الشهيرة: "فاقد الشيء لا يُعطيه". قيلت كحكمة، وترددت كحقيقة، حتى أصبحت جزءًا من وعي الناس وأسلوبهم في الحكم على الآخرين. لكن لو تأملنا الواقع بعمق، لرأينا أن أكثر من يمنح الحب، هو من ذاق مرارة فقدانه. وأكثر من يصغي باهتمام، هو من قضى عمره يصرخ داخليًا دون أن يصغي له أحد. الحقيقة أن فاقد الشيء لا يُعطيه فقط، بل يمنحه بشدة، بإفراط أحيانًا، لأن في العطاء شفاء لجراحه، وتضميد لصراخه القديم.
خذ على سبيل المثال، الأم التي لم تحظَ في طفولتها بحضن دافئ أو كلمة حنان. حين تُرزق بأبناء، تراها تحتضنهم كل صباح ومساء، وتغدق عليهم من الحب والحنان ما تفتقده في داخلها. ليس لأنها تملكه، بل لأنها تتوق لأن لا يذوقوا ما ذاقته. فاقد الحنان يعطي الحنان؛ لأنه يُدرك ألمه، فيعطي لغيره ما تمنى لو كان له.
وذاك المعلم الذي نشأ في بيئة تعليمية قاسية، مليئة بالتوبيخ والسخرية. حين يصبح معلمًا، تراه أكثر من يُشجع طلابه، وأحرصهم على زرع الثقة في نفوسهم. ليس لأنه تربى على ذلك، بل لأنه يعرف ألم الكلمة الجارحة، ومرارة نظرة الاستعلاء. لذا فهو يعاملهم بما كان يتمناه لنفسه صغيرًا.
حتى في العلاقات العاطفية، نرى من جُرح في الحب، يُحب بإخلاص حين يُمنح فرصة جديدة. يعطي الأمان، لأنه يعرف طعم الخذلان. يمنح الوفاء، لأنه اكتوى بالخيانة. فاقد الشيء لا يُغلق أبوابه دومًا، بل كثيرًا ما يبني بيديه نوافذ للآخرين، يمرر لهم النور الذي افتقده.
ربما لا يمتلك فاقد الشيء أدوات العطاء الكاملة في البداية، وربما يترنح أحيانًا بين الندوب والخوف، لكن حين يختار أن يُعطي، يفعل ذلك من أعماقه. من وجعه. من اشتياقه. من ذكرياتٍ لا تُنسى.
نعم، فاقد الشيء يُعطيه، وبشدة. لأنه يُدرك قيمته. يُدرك الوجع الناتج عن غيابه. ويُدرك أن العطاء أحيانًا هو الطريقة الوحيدة كي لا تتكرر الحكاية في حياة الآخرين.
فلنتوقف عن ترديد المقولة كما لو كانت قانونًا. لأن في كثير من الأحيان، أجمل العطاءات تأتي من أناسٍ لم يتلقّوا شيئًا. فقط قرروا أن يكونوا نورًا حيث كانت الظلمة لهم موطنًا.