"جمال عبد الناصر: زعيم الثورة وباني مصر الحديثة بين الإنجازات والنكسة"
جمال عبد الناصر، أحد أبرز القادة السياسيين في تاريخ مصر الحديث، وُلد في 15 يناير 1918 في حي باكوس بمدينة الإسكندرية. نشأ في بيئة متوسطة تنتمي إلى أصول صعيدية؛ حيث كان والده يعمل موظفًا في مصلحة البريد. تميز عبد الناصر منذ صغره بروح وطنية ونضوج سياسي سبق سنه، وشارك في العديد من المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني منذ سن مبكرة.
التعليم والكلية الحربية
انتقل عبد الناصر بين عدة مدارس نتيجة لعمل والده الذي تطلب تنقلاً مستمراً بين المحافظات. أكمل تعليمه الثانوي في مدرسة النهضة الثانوية بحي الظاهر بالقاهرة، حيث أظهر اهتمامًا كبيرًا بالسياسة وشارك في المظاهرات المناهضة للاحتلال البريطاني. في عام 1937، التحق بالكلية الحربية بعد عدة محاولات، حيث رُفض في البداية بسبب نشاطه السياسي ثم قُبل بعد إصرار شديد. تخرج عبد الناصر في عام 1938 برتبة ملازم ثانٍ، وبدأ حياته العسكرية التي كانت بداية لمرحلة جديدة في تاريخه وتاريخ مصر.
تأسيس تنظيم الضباط الأحرار
خلال خدمته العسكرية، أدرك عبد الناصر وزملاؤه الضباط أن التغيير الجذري في مصر لا يمكن أن يتحقق إلا بإطاحة النظام الملكي الفاسد وإنهاء الاحتلال البريطاني. من هنا، تأسس تنظيم الضباط الأحرار في عام 1949، وكان الهدف الرئيسي لهذا التنظيم هو تحرير مصر من الاستعمار والفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية. كان عبد الناصر هو القائد الفعلي للتنظيم، والذي ضم ضباطًا من مختلف الطبقات والخلفيات، متفقين جميعًا على ضرورة التغيير.
ثورة 23 يوليو 1952
في 23 يوليو 1952، قاد عبد الناصر وزملاؤه ثورة عسكرية نجحت في الإطاحة بالملك فاروق وإنهاء النظام الملكي في مصر. كانت الثورة بمثابة بداية لعهد جديد في تاريخ البلاد، حيث أعلنت الجمهورية وتولى اللواء محمد نجيب منصب أول رئيس لمصر. ولكن سرعان ما أصبح عبد الناصر الزعيم الفعلي للبلاد، حيث تولى منصب رئيس الوزراء في 1954 ثم رئيسًا للجمهورية في 1956 بعد استفتاء شعبي.
رحيل الإنجليز عن مصر
من أهم إنجازات عبد الناصر في تلك الفترة هو نجاحه في التفاوض مع بريطانيا بشأن انسحاب قواتها من منطقة قناة السويس. بعد مفاوضات طويلة، تم توقيع اتفاقية الجلاء في عام 1954، والتي نصت على رحيل القوات البريطانية من مصر بحلول يونيو 1956، مما أنهى عقودًا من الوجود الاستعماري.
قانون الإصلاح الزراعي
في إطار سعيه لتحقيق العدالة الاجتماعية، أصدر عبد الناصر قانون الإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952، وهو القانون الذي استهدف إعادة توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين المعدمين. كان الهدف من هذا القانون القضاء على الطبقية وتحقيق توازن اقتصادي واجتماعي في مصر، حيث تم تحديد ملكية الأراضي الزراعية بحد أقصى، وتم توزيع الأراضي الزائدة على الفلاحين. هذا الإصلاح كان خطوة جريئة نحو تقليل الفجوة بين الطبقات وتعزيز العدالة الاجتماعية.
النهضة الصناعية
لم يقتصر دور عبد الناصر على الإصلاح الزراعي فقط، بل قام بقيادة نهضة صناعية كبرى هدفت إلى تعزيز الاقتصاد المصري وزيادة استقلاليته. بدأ بتأسيس العديد من المصانع الكبرى التي شملت مصنع الحديد والصلب في حلوان، مصانع الأسمنت، مصانع الأسمدة، ومصانع تكرير البترول. كما توسعت صناعة الغزل والنسيج، وتم إنشاء شركة النصر للسيارات. هذه المشروعات لم تكن فقط لتعزيز الاقتصاد، بل كانت أيضًا جزءًا من استراتيجية لبناء مصر قوية تعتمد على قدراتها الذاتية.
تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي
في 26 يوليو 1956، اتخذ عبد الناصر قرارًا تاريخيًا بتأميم قناة السويس، وهو القرار الذي أشعل غضب بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. ردًا على هذا القرار، قامت الدول الثلاث بشن هجوم عسكري مشترك ضد مصر فيما عُرف بالعدوان الثلاثي. رغم قسوة الهجوم، نجح عبد الناصر بفضل الدعم الشعبي والدولي، وخاصةً من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، في الحفاظ على سيادة مصر واستمرار سيطرتها على القناة. هذا الانتصار عزز من مكانة عبد الناصر كرمز للمقاومة ضد الاستعمار.
بناء السد العالي
أحد أعظم مشروعات عبد الناصر كان بناء السد العالي في أسوان، والذي بدأ في عام 1960 وتم الانتهاء منه في عام 1970. يُعتبر السد العالي أحد أهم المنشآت الهندسية في القرن العشرين، حيث ساهم في حماية مصر من الفيضانات والجفاف، ووفّر طاقة كهربائية كبيرة ساهمت في دعم الاقتصاد المصري. كما ساعد في تحسين الزراعة من خلال توفير مياه الري على مدار العام.
حرب 1967 والنكسة
رغم الإنجازات الكبيرة، واجه عبد الناصر تحديًا كبيرًا تمثل في هزيمة مصر في حرب 1967، والتي عُرفت بالنكسة. أدت هذه الحرب إلى احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، وكانت صدمة كبيرة للشعب المصري والعالم العربي. حاول عبد الناصر تقديم استقالته بعد الهزيمة، لكن الجماهير خرجت في مظاهرات ضخمة تطالبه بالبقاء في السلطة، مما دفعه للاستمرار في قيادة البلاد والعمل على إعادة بناء الجيش.
وفاته وإرثه
في 28 سبتمبر 1970، توفي جمال عبد الناصر إثر أزمة قلبية عن عمر يناهز 52 عامًا، تاركًا وراءه إرثًا مختلطًا من الإنجازات والإخفاقات. يُعتبر عبد الناصر أحد أكثر الزعماء تأثيرًا في تاريخ مصر والعالم العربي، حيث لعب دورًا محوريًا في تشكيل الوعي القومي وتحقيق العدالة الاجتماعية. إلا أن فترة حكمه لم تكن خالية من السلبيات، حيث يُنتقد بسبب النكسة وبعض السياسات الداخلية التي اتسمت بالقمع وانعدام الحريات السياسية.
في النهاية، يظل جمال عبد الناصر شخصية معقدة ومثيرة للجدل، فقد كان زعيمًا وطنيًا مخلصًا سعى لبناء مصر قوية مستقلة، لكنه واجه تحديات كبيرة وفشل في تحقيق بعض أهدافه. ومع ذلك، لا يمكن إنكار تأثيره الكبير على مصر والعالم العربي، وسيظل اسمه محفورًا في الذاكرة التاريخية كرمز للكرامة الوطنية والنضال ضد الاستعمار.