الفقد النفسي: ليس كل فقدٍ موتًا

الفقد النفسي: ليس كل فقدٍ موتًا

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

الفقد النفسي: ليس كل فقدٍ موتًا

عندما نُحدق في الغياب دون جنازة

عندما نفقد شخصًا عزيزًا بالموت، تتفهم البيئة المحيطة حجم الألم، وتُقدِّم الدعم الاجتماعي والنفسي المُتعارف عليه. لكن هناك نوع من الفقد أشد تعقيدًا وأكثر إرهاقًا، وهو "الفقد النفسي"، أو ما يُعرف بـ "الفقد الغامض" (Ambiguous Loss).

الفقد النفسي هو تجربة الحزن على شيء أو شخص لا يزال موجودًا جسديًا ولكنه غائب عاطفيًا أو وظيفيًا، أو الحزن على واقع لم يَعُد موجودًا. هذا النوع من الفقد لا ترافقه طقوس وداع واضحة أو اعتراف اجتماعي بحجم الكارثة، مما يجعل الحزن عليه عُزلة مضاعفة.


 أشكال الفقد النفسي المُرهِقة

الفقد النفسي يتخذ أشكالًا عديدة في حياتنا اليومية، وغالبًا ما يمر دون أن نُدرك أننا نحزن على شيء لم يمت فعليًا:

1. الفقد الجسدي مع الغياب النفسي

هذا هو الشكل الأكثر شيوعًا ومرارة. الشخص موجود أمامك، ولكنه لم يعد "هذا الشخص" الذي تعرفه وتحبه. ومن أمثلته:

الأمراض المزمنة والعقلية: فقدان الشريك أو الوالد بسبب الخرف (Alzheimer's) أو الإدمان، حيث يكون الجسد موجودًا لكن الشخصية أو الوعي الذي شكل جوهر العلاقة غائب.

الانفصال العاطفي: العيش في زواج أو صداقة انتهت عاطفيًا، حيث يستمر الطرفان في الوجود المشترك لكن الاتصال العميق قد مات.

2. الفقد النفسي مع الغياب الجسدي (المجهول)

وهو فقدان شخص لا نعرف مصيره (المفقودون، الأسرى، أو المهاجرون الذين انقطعت أخبارهم). هذا النوع من الغياب يُجمِّد عملية الحزن لأنه لا يوجد يقين للبدء بالوداع.

3. فقدان الواقع المألوف

هذا النوع من الفقد يؤثر على الإحساس بالأمان والهوية. ومن أمثلته:

فقدان الوظيفة أو الحالة الاجتماعية: الحزن على الهوية التي كانت مرتبطة بمهنة أو مركز (فقدان هويتك كشخص عامل ناجح).

فقدان الأحلام المؤجلة: الحزن على المستقبل الذي كنت تخطط له ولم يتحقق (مثل فقدان القدرة على الإنجاب، أو إلغاء حفل زفاف مُخطط له).

التغيير الجذري: الانتقال إلى بلد جديد أو المرور بوباء، حيث نحزن على "الحياة الطبيعية" التي كانت موجودة سابقًا.


 لماذا يُعد الفقد الغامض أكثر صعوبة؟

الحزن على الموت الطبيعي يتبع مسارًا معروفًا، لكن الفقد النفسي يُبقينا معلقين بين الأمل واليأس، مما يمنع الشفاء:

غياب الختام (Lack of Closure): لا توجد نهاية واضحة أو طقوس تسمح لنا بالبدء في تجاوز الأمر. كيف تحزن على زواج لم ينتهِ قانونيًا لكنه انتهى عاطفيًا؟

الشعور بالذنب والغموض: قد تشعر بالذنب لأنك "تحزن على شخص لا يزال على قيد الحياة". كما أن الغموض يمنع وضع حدود واضحة، حيث تظل في حالة "استعد للعودة" أو "استعد للتحسن" للأبد.

الإنكار الاجتماعي: نادرًا ما يحصل الفقد النفسي على اعتراف اجتماعي. الناس يقولون: "احمد الله أنه لا يزال على قيد الحياة!"، مما يُجبرك على كبت حزنك وشعورك بالوحدة.


 استراتيجيات التعامل مع الفقد الذي لا يموت

التعافي من الفقد النفسي لا يعني "نسيانه"، بل يعني التعايش مع الغموض وإيجاد طرق لـ "إعادة تعريف" العلاقة:

الاعتراف بتسمية الحزن: الخطوة الأهم هي الاعتراف بأن ما تشعر به هو حزن حقيقي، بغض النظر عن رأي الآخرين. قل لنفسك: "أنا أحزن على فقدان العلاقة التي كانت، حتى لو كان الشخص موجودًا." هذا التحقق يمنحك الإذن بالشفاء.

إعادة تعريف العلاقة: إذا كان شخص ما غائبًا عاطفيًا، غيِّر توقعاتك عن طبيعة العلاقة الحالية. تقبَّل أنك لن تحصل على الدعم الذي كنت تحصل عليه سابقًا، واعمل على بناء شبكة دعم خارجية. هذا يقلل من خيبة الأمل المستمرة.

بناء طقوس الوداع الشخصية: بما أنه لا توجد جنازة اجتماعية، يمكنك إنشاء طقوسك الخاصة لوداع الشيء الذي فقدته (سواء كان حلمًا أو دورًا أو علاقة سابقة). يمكن أن يكون هذا عبر كتابة رسالة وداع، أو التخلص من تذكارات رمزية، أو التعبير عن الحزن في جلسة علاجية.

المرونة والتعايش مع الغموض: تعلَّم أن تعيش في المنطقة الرمادية. تدرب على تقبُّل أن الإجابات الكاملة والختام الواضح قد لا يأتيان أبدًا، وأن الحياة يمكن أن تستمر رغم وجود هذا الغموض.

الفقد النفسي يُعلِّمنا أن الحياة هي سلسلة مستمرة من النهايات والبدايات. والقدرة على الحزن على ما فقدناه – حتى لو كان مجرد احتمال أو دور – هي مفتاحنا للتحرر والمضي قدمًا بسلام.

 

تمارين عملية للتعايش مع الفقد النفسي

الهدف من هذه التمارين هو الانتقال من حالة الشلل بسبب الغموض إلى حالة القبول المرن والتركيز على ما يمكن السيطرة عليه في الحاضر.


1.  تمرين "كتابة رسالة الوداع للواقع القديم"

هذا التمرين يساعد في خلق "ختام رمزي" لشيء لا يمكن الحصول على ختام حقيقي له:

الخطوة 1: تحديد الفقد: حدد بوضوح ما هو الشيء الذي تحزن عليه (هل هو الشخص الذي كان قبل المرض؟ الزواج الذي تمنيته؟ العمل الذي فقدته؟).

الخطوة 2: كتابة الرسالة: اكتب رسالة موجهة لهذا الواقع أو الدور أو العلاقة التي فقدتها.

اذكر فيها كل ما تتذكره وتشتاق إليه (الجوانب الإيجابية).

عبِّر عن الغضب أو الحزن أو خيبة الأمل من التغيير الحاصل.

اختمها بعبارة تُشير إلى التحرر والمضي قدمًا: "أنا أودعك اليوم وأتقبّل الواقع الجديد... شكرًا لك على ما علمته لي."

الخطوة 3: طقس الوداع: يمكنك تمزيق الرسالة أو حرقها (بأمان) أو دفنها، كرمز للانتقال من مرحلة التمسك إلى مرحلة التقبل.

2.  تمرين "جرد منطقة السيطرة"

الفقد الغامض يجعلك تشعر بالعجز وفقدان السيطرة. هذا التمرين يعيد التركيز إلى اللحظة الحالية:

دائرة السيطرةدائرة التأثيردائرة القبول (لا سيطرة عليها)
ما يمكنني فعله اليوم؟ (مثال: العناية بنفسي، وضع حدود في العلاقة الحالية).ما يمكنني التأثير فيه؟ (مثال: محاولة بدء حوار صادق، البحث عن مجموعات دعم).ما يجب عليَّ تقبله؟ (مثال: أن الطرف الآخر قد لا يتغير أبدًا، غموض المستقبل).
التركيز: ابدأ كل صباح بفعل شيء واحد من دائرة السيطرة.التركيز: ضع خطة عمل واحدة فقط.التركيز: استخدم التأمل لتقبّل هذه النقطة دون مقاومة.

3. ممارسة "القبول المُتوازن"

القاعدة في الفقد الغامض هي قبول "الوجود والغياب" في الوقت ذاته.

الممارسة اليومية: اختر جملة تعكس هذا التناقض وكررها بوعي، مثل:

"أنت موجود جسديًا، وأنا أحزن على غيابك العاطفي."

"أنا أقدر ما تبقى في علاقتنا، وفي الوقت نفسه أُكرِّم حزني على ما فقدناه."

هذا يمنع العقل من الإصرار على رؤية الأبيض أو الأسود، ويُدرِّبه على التعايش مع اللون الرمادي.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
Reda Hamza تقييم 4.91 من 5.
المقالات

40

متابعهم

7

متابعهم

3

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.