
"هل هاتفك هو المشكلة أم ما يعرض عليه؟ قراءة مختلفة لقلق الآباء" شرح كتاب لماذا يقلق ابواك من هاتفك.
لماذا يقلق أبواك من هاتفك؟ قراءة في كتاب يكشف الحقيقة
في عالم اليوم، لا يكاد يخلو بيت من الهواتف الذكية، فهي أصبحت جزءًا أساسيًا من حياتنا اليومية، بل يمكن القول إنها امتداد لنا. ومع ذلك، يظل الآباء والأمهات يشعرون بالقلق تجاه أبنائهم وعلاقتهم بالهواتف. السؤال هنا: هل القلق مبرر؟ وهل الهاتف فعلًا هو السبب في كل تلك المخاوف؟ في كتابه الذي أثار الجدل مؤخرًا، يوضح المؤلف أن القضية ليست في الجهاز نفسه، بل فيما يعرض عليه، في المحتوى الذي يستهلكه الأبناء والوقت الذي يقضونه أمام الشاشة. هذه الرؤية تنقل النقاش من الهجوم على الأداة إلى التفكير في طريقة استخدامها.
الكاتب لم يقل يومًا إن الهواتف مؤذية بطبيعتها، فهي مجرد أدوات صامتة بلا نوايا. لكنها نافذة واسعة على العالم، وما يُعرض من خلالها هو ما يشكل الوعي والسلوك والعادات. مثلها مثل التلفاز في زمن مضى، أو حتى الكتب في عصور سابقة؛ فما يُقرأ أو يُشاهد أو يُتصفح هو الذي يصنع التأثير. لذلك فإن القلق الأبوي لا يتعلق بالهاتف ذاته، بل بما قد يفتح الباب له من مشتتات أو مؤثرات.
ومن هنا يمكن أن نفهم أن الخطر يكمن في المحتوى غير المنضبط. الهواتف اليوم لا تُستخدم فقط للتواصل أو البحث عن المعلومة، بل هي ساحات مفتوحة لعوالم التواصل الاجتماعي، لمقاطع الفيديو القصيرة، ولمنصات تقيس تفاعل المستخدمين بالثواني. كل هذه التطبيقات تعمل بخوارزميات ذكية تعرف كيف تجذب انتباهك وتجعلك تقضي وقتًا أطول مما كنت تنوي. والنتيجة؟ تجد نفسك غارقًا في بحر لا نهاية له من الصور والمقارنات والقصص، مما يؤثر على ثقتك بنفسك ويضعف قدرتك على التركيز.
المثير للاهتمام أن المؤلف لا يتعامل مع الهاتف كعدو، بل كأداة يمكن أن تكون سببًا في الارتقاء أو الانحدار. إذا استخدمته للوصول إلى المعرفة، لممارسة التعلم الذاتي، أو حتى للتواصل البنّاء، فإنه يصبح صديقًا ومعينًا. أما إذا تركت نفسك أسيرًا للخوارزميات والمحتويات المشتتة، فسيتحول الهاتف تدريجيًا إلى عبء يسرق منك وقتك، ويؤثر على طموحاتك وصحتك الذهنية.
الكتاب يؤكد على نقطة محورية: الهواتف ليست هي ما يقلق الآباء، بل ما قد تفعله بأبنائهم إذا غاب الانضباط. فالمراهق الذي يقضي ساعات طويلة يتصفح صورًا لحياة الآخرين المثالية قد يقع فريسة للمقارنة والشعور بالنقص. والطالب الذي ينوي المذاكرة عبر هاتفه قد ينتهي به الحال يتنقل بين الفيديوهات القصيرة بدلًا من إنجاز ما خطط له. وحتى البالغون ليسوا بمنأى عن ذلك، فكم من مرة أردت فقط أن تلقي نظرة سريعة على إشعار، فإذا بك تجد نفسك بعد ساعة ما زلت تتنقل بلا وعي؟
ومن هنا تظهر قيمة الانضباط الذاتي. الهاتف سيظل موجودًا، ولن نستطيع أن نهرب منه أو نلغيه من حياتنا. لكن ما نستطيع فعله هو تعلم التحكم فيه بدل أن يسيطر علينا. الكاتب يقترح أن يبدأ كل شخص بتحديد أهداف واضحة لاستخدامه: لماذا أفتح الهاتف الآن؟ هل لغرض محدد، أم لمجرد الهروب من الملل؟ هذه الأسئلة الصغيرة تساعد على إدراك ما إذا كان الاستخدام واعيًا أو مجرد عادة آلية.
كما يشير إلى أن الوعي بما تعرضه الخوارزميات أمر ضروري. المنصات لا تهتم بما ينفعك بقدر ما تهتم بما يجعلك تبقى أطول وقت ممكن. لهذا، أنت المسؤول عن تنظيف بيئتك الرقمية: اختر الصفحات التي تتابعها، قلل من وقتك على التطبيقات المشتتة، واستثمر وجودك على الهاتف فيما يضيف قيمة حقيقية لك. بهذه الطريقة يتحول الهاتف من مصدر قلق للأبوين إلى وسيلة نمو وتطور.
الكتاب يطرح كذلك فكرة مهمة حول العلاقة بين الجيل الجديد والآباء. القلق الذي يبديه الوالدان ليس عداءً للتكنولوجيا، بل خوف على الأبناء من أن يفقدوا توازنهم وسط هذا الكم الهائل من المعلومات والمغريات. حين يدرك الأبناء هذه الحقيقة، يمكن أن ينشأ حوار صحي بين الطرفين. بدلًا من أن يشعر الشاب أن والديه يريدان حرمانه من هاتفه، يمكن أن يفهم أنهما يحاولان حمايته من سوء الاستخدام.
وفي النهاية، الرسالة الجوهرية التي يقدمها الكاتب هي أن الهواتف ليست عدوًا يجب التخلص منه، ولا صديقًا يجب الوثوق به بلا وعي. إنها مجرد أداة، والنتيجة النهائية تعتمد على من يمسك بها. إذا اخترت أن تجعلها وسيلة للمعرفة، ستفتح لك أبوابًا جديدة، وإذا استسلمت للمحتويات المشتتة ستفقد وقتك وتركيزك. القلق الأبوي إذن ليس من الهاتف ذاته، بل من طريقة تعاملنا معه.
إن إدراك هذه الفكرة وحده يمكن أن يغير الكثير. الهاتف يمكن أن يكون أداة لنجاحك، أو عقبة في طريقك، والقرار في النهاية بيدك. فلتجعل علاقتك به واعية، ولتتذكر دائمًا أن ما يعرض عليه هو ما يصنع الفرق بين التقدم والتشتت.