ابن بطوطة: كان رجلا عفا رقيق الشعور، تقياً، على جانب طيب من العلم بالفقه والشريعة

ابن بطوطة: كان رجلا عفا رقيق الشعور، تقياً، على جانب طيب من العلم بالفقه والشريعة

0 المراجعات

 

 

image about ابن بطوطة: كان رجلا عفا رقيق الشعور، تقياً، على جانب طيب من العلم بالفقه والشريعة

 

منذ عهد الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وراية الإسلام تشاهد عالية خفاقة على معاقل الفرس والروم، داعية إلى الله، وإلى تلك المثل والقيم التي جاءت بها عقيدة الإسلام، قانونا يقرر العدالة والمساواة والحرية، ويعلى قيمة الإنسان ويحدد لها الكرامة والعزة إطارا ومضمونا، فيمتنع بمقتضاها أن يخضع هذا الإنسان إلا لحكم الله أو أن تمس كرامته إلا بشريعة الله.

وتوالت الفتوح عاما بعد عام، بحيث ما كاد القرن الثامن من ظهور الإسلام يشارف نهايته حتى كانت هذه الراية تخفق على الساحة من مشارف الصين إلى أسوار فرنسا، واستتبع ذلك اتساع مسؤولية الحكم وتطور أساليب الإدارة مما حتم على السلطان في ذلك العهد أن يلتمس السبل إلى الاتصال السريع بالأقطار والثغور في المشرق والمغرب ولم يكن من سبيل لهذا الاتصال إلا ، بمعرفة هذه الأقطار والثغور ومعرفة المسالك إليها من بر وبحر، وسهل ووعر، وحر وقر فكان ذلك هو الدافع الأول للضرب في الآفاق، ورصد ما يشاهده الجوابون وما يصادفونه في تجوالهم من سهل وجبل، وما يلاحظونه على الأقوام في هذه الآفاق من سمات وخصائص، وعادات وتقاليد، وأحوال معيشة ووسائل عيش وأنماط سلوك.

فكان الرحالة المسلمون، ووراءهم دوافع الإسلام من أوائل الرواد الذين رصدوا جغرافية العالم وحددوا معالم الأقطار التي رحلوا إليها وكان من هؤلاء الأوائل (ابن خرداذبة) في أسفاره ثم اليعقوبي، والبلخي وابن بطوطة وأن مؤلفاتهم القيمة التي وضعت الأسس لما يمكن أن يسمى فصولا من جغرافية العالم القديم أو العالم الإسلامي كما عرفوه في عصرهم.

وإلى جانب من جابوا الآفاق خدمة للسلطان، أو رغبة في خدمة العلم ممن سبق ذكرهم من الرواد، نجد للتجارة أثرها وحافزها القوي، في ارتياد آفاق لم يصل إليها الحكم الإسلامي، ولعل حكاية ( السندباد البحري) على ما فيها من خيال أسطوري تعطينا فكرة، عن الأخطار التي كان يواجهها الرحالة من التجار، وهم يتلمسون الأسواق لما يحملونه من سلع قطر آخر، أو لما يحملونه من العاج والحرير والطيب والغالية والأفاويه في أسواق العالم الإسلامي وعلى الأخص في عواصمه الكبرى ومراكز السلطان فيه.

ولعل المملكة العربية السعودية قبل غيرها ، خليقة بأن توجه عناية خاصة إلى التراث الإسلامي من كتب الرحالة العرب والمسلمين، بإعادة طبعها وتحقيقها ومن هذه الكتب على سبيل المثال:

- رحلة التاجر سليمان.

- رحلة الناخوذة ابن وهب إلى الهند والصين ومازاده عليها ابن السيرافي.

- ثم رحلات ياقوت الرومي في رحلاته الثلاث في كتابه (معجم البلدان، الذي يضعه في القمة من رواد علم الجغرافيا حتى اليوم).

وكتاب (عجائب البلدان) للشاعر ( أبو دلف) بن مهلهل الذي سافر من بخارى في أوائل القرن العاشر فزار بلاد التيبت والهند وأفغانستان وسجستان ودون في كتابه ما دون من أخبار ووصف جديرين بالتأمل والدراسة والتحقيق.

كتاب (مروج الذهب) للمسعودي الذي يعطينا وصفا لمشاهداته في بلاد فارس، والخزر، والهند، والتيبت وجزيرة سيلان ومدغشقر وأقاليم بحر قزوين وبلاد الروم، وسوريا وفلسطين ومصر والسودان وجزيرة صقلية.

أما رحالتنا الذي نتحدث عنه فهو أبو عبدالله محمد بن عبدالله، بن محمد، ابن إبراهيم اللواتي (نسبة إلى لواته من قبائل البربر) المعروف بابن بطوطة والملقب بـ (شمس الدين).

ولد ابن بطوطة في طنجه في الرابع والعشرين من شهر يناير عام ألف وثلاثمئة وأربعة الموافق للسابع عشر من شهر رجب عام 703 هـ وظل فيها إلى أن بلغ الثانية والعشرين..

وككثير من الرحالة المسلمين نجد أن دافعه إلى الشروع في رحلاته هو الحج إلى بيت الله الحرام.. وبعد الحج في عام ألف وثلاثمئة وخمسة وعشرين ينطلق ليجوب أقطار العالم المعمور أو المعروف في ذلك الوقت. وقد كان فيما يبدو من أقواله محظوظاً، يجد الكثير من الترحيب والإكرام، إذ نراه قد عين قاضيا في (دلهى) من قبل السلطان المسلم (محمد شاه) ثم سفيرا ومندوبا مفوضا فوق العادة لهذا السلطان لدى ملك الصين.. وكان خلال هذه الرحلات يدون مشاهداته وملاحظاته، إلى أن داهمه بعض الأشرار في الهند فسلبوه كل ما كان يحمل، ومنه مدوناته الكثيرة.. ويمكن القول أن هذا هو السبب، فيما يمكن أن يلاحظ على ما دونه أو أملاه بعد ذلك في مراكش من اضطراب في الوصف واهتزاز في الخبر..

يؤثر عن ابن بطوطة أنه كان رجلا عفا رقيق الشعور، تقياً، على جانب طيب من العلم بالفقه والشريعة، ندى الكف وبالأخص للعلماء المنقطعين للعلم والعبادة. وقد يؤخذ عليه أنه كان يسرف في التبرك بمن تشيع عنهم شائعة الولاية فيكثر من زيارة قبورهم، والمبيت في ما يعرف باسم (الزوايا) الموقوفةعلى هؤلاء الصلاح أو الأولياء.

حج ابن بطوطة إلى بيت الله الحرام أربع مرات، وفي كثيرمما كتب ودون يحن إلى ذكرى هذه الرحلات التي قام بها إلى الحجاز، ويعزى الكثير مما طلبه من التوفيق إلى بركة هذه الرحلات.

image about ابن بطوطة: كان رجلا عفا رقيق الشعور، تقياً، على جانب طيب من العلم بالفقه والشريعة

وفي مقدمة كتابه، نرى شدة تعلقه بوالديه، ونعلم أن أمه قد توفيت حين كان يقوم برحلته الأولى، ونرى ما عاناه من الحزن والأسى، وماظل يتعزى به عنها بزيارة قبرها والبكاء لفراقها حتى ليبدو مع هذه العواطف طفلا من الأطفال.

وقد قام ابن بطوطة بثلاث رحلات واسعة جاب فيها أكثر بلاد المعمورة  المعروفة في زمانه.

وكانت أولى رحلاته من طنجة إلى مكة، فجاب بلاد مراكش والجزائر وتونس وطرابلس الغرب ومصر.. ومن القاهرة اتجه إلى صعيد مصر قاصداً أن يبحر من ميناء على البحر اسمه (عيذاب)، ولكنه اضطر إلى العودة إلى القاهرة إذ تعذر عليه أن يسافر بحرا بسبب حرب كانت ناشبة بين النوبة والمماليك، فاتجه إلى فلسطين ، فلبنان، ثم سوريا ومنها إلى الحجاز وبعد أن أدى فريضة الحج لأول مرة اتجه إلى العراق، ومنها إلى فارس، ثم إلى الأناضول، ومنها إلى سوريا ثم إلى الحجاز حيث حج للمرة الثانية.. وفي هذه المرة جاور البيت الحرام لمدة سنتين..

ومن الحجاز، قصد اليمن، ومن اليمن اتجه إلى إفريقيا الشرقية، ثم كر راجعا إلى الحجاز من الجنوب، فوصل إلى الخليج العربي، حيث زار عمان وهرمز والبحرين والإحساء.. ثم عاد إلى الحجاز ليحج للمرة الثالثة..

وبعد هذه الجولة الواسعة هبط مصر ثانية، ورجع إلى فلسطين ولبنان، وجبل العلويين ثم اتجه إلى الأناضول ومنها إلى بلاد القرم.. ومما يؤكد حسن حظه أن عهد إليه بمرافقة الأميرة اليونانية، زوجة السلطان محمد أزبك إلى القسطنطينية حيث أقام بها مدة محفوفا برعاية السلطان وعطفه.. وفي هذه المرة نجه يصل إلى خوارزم .. والتركستان، وأفغانستان، والسند، ثم نراه في دلهي يتولى القضاء لسلطانها محمد شاه على المذهب المالكي.. ثم نراه يرأس بعثة سياسية من السلطان محمد إلى ملك الصين، فيصل إلى جزير (طيبة).. ثم نراه في جزيرة سيلان، ثم في المليبار والبنغال، وجزر الهند الصينية..

ومرة أخرى يعود إلى الحجاز للمرة الرابعة.. وبعد الحج يعود إلى بلاده مارا بمصر، وتونس والجزائر إلى أن يصل فاس سنة ألف وثلاثمئة وتسعة وأربعين ميلادية ولكنه لا يطيل الإقامة في فاس، إذ يبدأ رحلته إلى الأندلس، وكانت هذه هي رحلته الثانية، التي لم تطل ولم تشمل سوى سبته، وجبل طارق، وجزيرة ملقة وغرناطة.

أما في الرحلة الثالثة فهي إلى التي كرسها للجولة فيما كان يعرف بالسودان وهو منطقة تشمل عددا من بلدان غرب إفريقيا ووسطها ومنها إلى مالي وتومبوكتو.

وقد اهتم المستشرقون برحلة ابن بطوطة، اهتماماً، سبقوا به العالم العربي منذ سنة ألف وثمانمئة وثمانية عشر ميلادية بحيث قد ترجم الكتاب واسمه ( تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) أو بعض أجزائه، إلى اللاتينية، والإنجليزية والبرتغالية والألمانية والفرنسية والتركية والهندية.

وطبع الكتاب كاملاً عن نسخة أصلية بخط ابن جزى، الذي أملى عليه ابن بطوطه أخبار رحلاته في باريس عام 1859م في أربعةمجلدات بعناية مستشرقين كبيرين فرنسيين، وعن هذه الطبعة طبع الكتاب في القاهرة لأول مرة عام 1871م.

ومع أن ابن خلدون يذكر ابن بطوطة ورحلاته ويسجل ما كان يساور الكثيرين من شكوك في صدق ما جاء فيها من أخبار، فإننا نجد المستشرق ( دوزي) يسميه (الرحالة الأمين)..

وقد يعذر ابن خلدون في تسجيله للشكوك، حين يجد خبراً من أخبار ابن بطوطة عمن يسمى (جمال الدين الساري) الذي رآه في دمياط وذكر أنه وجد حليق اللحية وحين أخذ عليه القاضي حلق لحيته ظهر له بلحية سوداء عظيمة ثم ماهي إلا لحظة حتى ظهر له بلحية بيضاء.. وقبل أن يفيق القاضي من دهشته عاد الساري حليق اللحية كما شوهد أول مرة.

فالخبر هنا لا يقبله ابن خلدون ويشكك فيه لأنه مما (إذا رجع الإنسان فيه إلى أصوله، وهيمن على نفسه وميز بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته فما ذهل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه).

أن ابن خلدون قد شكك فيما يدخل في باب الغرائب التي يصعب قبولها عقلاً، وأن دوزي قد اختبر دقة ابن بطوطة في ما ذكره من مواقع البلدان وعادات أهلها، وما فيها من ثمار وأنهار، وبرار وبحار، فوجده صادقا أمينا، فسماه (الرحالة الأمين) متسامحا في الكثير من الغرائب، أو مؤمنا بها، وهو يعرف ما في الهند – مثلا – من ظواهر غريبة يأتيها السحرة والمشعوذون حتى اليوم.

وقد توفي ابن بطوطة سنة ألف وثلاثمئة وسبعة وسبعين للميلاد، وما يزال إجماع العلماء منعقداً على أن له  الكثير من الفضل على علم الجغرافيا، بما أثبت من حقائق، وما سجل من مشاهدات، وما سرد من معلومات كثيرة وملاحظات دقيقة لا تعدم قيمتها العلمية مع احتفاظها بروح القصة ونكهة الحياة الحافلة بالغرائب التي لا تنقضي منذ كانت الحياة، وحتى اليوم.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

175

متابعهم

583

متابعهم

6652

مقالات مشابة