
الطفل هو "الميموري كارت": أنت تبرمج، وهو ينفذ
الطفل هو "الميموري كارت ": أنت تبرمج، وهو ينفذ.

نظرت يوماً إلى ابني وهو يقلدني في حركة بسيطة، فابتسمت. لكن الابتسامة سرعان ما تلاشت مع سؤال مؤلم اخترق داخلي: هل مهمتي كأب هي أن أصنع منه نسخة مصغرة مني؟ هل التربية مجرد تكرار للأوامر ومحاولة فرض الطريق الذي لم أسلكه يوماً؟ أم أن الأمر أعمق من ذلك بكثير؟
الحقيقة أن هذه هي الأزمة الصامتة التي يقع فيها الكثير من الآباء والأمهات: الخلط بين الحب والتملك. نحن نحب أبناءنا حباً لا يوصف، لكننا في أحيان كثيرة نمارس عليهم نوعاً من السيطرة العاطفية، فنريدهم أن ينجحوا في المجالات التي اخترناها نحن، وأن يتجنبوا الأخطاء التي ارتكبناها في شبابنا، معتقدين أن ذلك الطريق الأمثل لحمايتهم وضمان مستقبلهم. غير أن النتيجة، في معظم الأحيان، تأتي مختلفة: أطفال بلا بوصلة داخلية، وشباب ممزق بين توقعات الوالدين وصوت داخلي يطالب بالحرية والاختيار.
التربية ليست ساحة للأوامر العسكرية، وليست نصائح محفوظة تُلقى على مسامع طفل ينتظر التنفيذ. التربية أشبه بورشة بناء تحتاج إلى أدوات خاصة، وصبر طويل، ووعي دائم. الطفل لا يحتاج إلى معلّم صارم بقدر ما يحتاج إلى قدوة قريبة منه، تستمع قبل أن تحكم، وتشارك قبل أن تأمر. الأبوة الحقيقية تبدأ عندما نتوقف عن إصدار التعليمات الجافة، ونبدأ في مشاركة الخبرات الحياتية والقصص الصغيرة التي تحمل معاني أكبر من آلاف النصائح.
حين تجلس بجوار طفلك وتستمع إلى مخاوفه، أو إلى أحلامه الغريبة التي قد تبدو لك غير واقعية، فأنت لا تمنحه مجرد فرصة للكلام، بل تمنحه مساحة للوجود والشعور بالأمان. في تلك اللحظات الصغيرة، يتكوّن وعيه بذاته، ويشعر أن صوته مسموع وله قيمة. وهذا أهم من أي نصيحة مباشرة قد نلقيها عليه.
من الخطأ أن نعلّق كل قيمة الطفل على درجاته الدراسية أو على إنجازاته السريعة. الأهم هو أن نزرع فيه حب الاستكشاف والرغبة في التعلم. السماح له بخوض تجارب صغيرة والفشل فيها داخل بيئة آمنة، يجعله يتعلم أكثر مما قد يتعلمه من مئة نصيحة جاهزة. فالخبرة التي يكتشفها بنفسه تترسخ في ذاكرته، وتتحول إلى درس عملي يصاحبه طويلاً.
وكما أن الطفل يتعلم من تجاربه الخاصة، فإنه يتعلم بالقدر نفسه من انعكاس أفعالنا عليه. نحن مرآته الأولى. فلا معنى لأن نطلب منه أن يقرأ كتاباً بينما نمضي نحن الساعات أمام الشاشات، ولا معنى أن نطالبه بالهدوء بينما نرفع أصواتنا طوال الوقت. الأطفال لا يستجيبون للكلمات المجردة بقدر ما يقلدون الأفعال الملموسة. فإذا أردنا أن نغرس فيهم قيماً حقيقية، فعلينا أن نكون نحن النموذج الحي لها، فالأفعال تترك أثراً أعمق بكثير من آلاف الكلمات.
وحين يرتكب الطفل خطأً، لا تبدأ علاقتك به باللوم، بل بالاحتواء. قل له أولاً: "أنا أفهم أنك تشعر بالغضب أو الإحباط"، ثم بعد ذلك اشرح له خطأه. البداية العاطفية تفتح قلبه لسماع التوجيه، بينما النقد المباشر يغلق الأبواب. الطفل الذي يشعر أن والده يراه ويفهمه، يصبح أكثر استعداداً للتعلم وتقبل النصح.
الأبناء ليسوا رصيداً نؤمّن به مستقبلنا، ولا مشاريع نعيد من خلالها بناء أحلامنا القديمة. هم كيانات فريدة تُبنى اليوم، ويحتاجون إلى فرصة حقيقية ليكتشفوا هويتهم بأنفسهم. إن التربية الناجحة هي التي تصنع إنساناً قادراً على اتخاذ قراراته، مدركاً لمسؤولياته، وواعياً بذاته، لا مجرد آلة تنفذ الأوامر دون وعي أو روح.
وفي النهاية، يجب أن ندرك أن التربية رحلة طويلة وليست سباقاً قصيراً. هي مسار يومي مليء بالأخطاء والتجارب، نخطئ فيه ونتعلم كما يتعلم أبناؤنا. الأبوة والأمومة ليست علماً ثابتاً يُحفظ، بل ممارسة متجددة مع كل موقف جديد. وكلما منحنا أبناءنا مساحة أكبر للحرية، وثقة أوسع في قدراتهم، كلما كبروا أشخاصاً أصحاء، أقوياء، واثقين بأنفسهم، قادرين على مواجهة تحديات الحياة بإبداع وشجاعة.