
خسوف القمر.. ظاهرة سماوية أبهرت العقول عبر التاريخ
ما هو خسوف القمر؟
خسوف القمر هو ظاهرة فلكية تحدث عندما تقع الأرض بين الشمس والقمر، بحيث تحجب الأرض ضوء الشمس عن القمر كليًا أو جزئيًا. وبما أن القمر لا يضيء بذاته بل يعكس ضوء الشمس، فإن حجبه عن أشعة الشمس يؤدي إلى اختفائه كليًا أو ظهور تغيرات في لونه وسطوعه.
يحدث خسوف القمر دائمًا في طور البدر، أي عندما يكون القمر مكتملًا. لكن ليس كل بدر يشهد خسوفًا، إذ يجب أن يكون القمر قريبًا من العقدتين المدارية (النقطتين اللتين يتقاطع فيهما مدار القمر مع مدار الأرض حول الشمس).
أنواع خسوف القمر
تتنوع أشكال خسوف القمر بحسب مقدار دخول القمر في ظل الأرض، وتنقسم إلى:
الخسوف الكلي
في هذه الحالة يدخل القمر بأكمله في ظل الأرض، فيختفي لونه الأبيض الفضي، ويتحول تدريجيًا إلى لون نحاسي أو أحمر داكن بسبب انكسار أشعة الشمس عبر الغلاف الجوي للأرض. وهذا ما يُعرف بظاهرة "القمر الدموي".
الخسوف الجزئي
لا يدخل القمر كله في ظل الأرض، بل يختفي جزء منه بينما يبقى الجزء الآخر مضيئًا، فيظهر القمر وكأنه "مأكول" أو منقوص.
الخسوف شبه الظلي (الخسوف شبه الكامل)
في هذا النوع لا يدخل القمر إلى ظل الأرض الحقيقي (Umbra) بل إلى شبه الظل (Penumbra)، مما يؤدي إلى خفوت إضاءته قليلًا فقط، وغالبًا يصعب على العين المجردة ملاحظته بوضوح.
الألوان الساحرة للقمر أثناء الخسوف
أحد أكثر المشاهد التي تثير الدهشة في الخسوف الكلي هو تغيّر لون القمر من الأبيض إلى البرتقالي أو الأحمر. يعود ذلك إلى أن أشعة الشمس التي تمر عبر الغلاف الجوي للأرض تتعرض لانكسار، فيُشتت الضوء الأزرق وتصل الأشعة الحمراء إلى القمر لتنعكس على سطحه. وبذلك يظهر القمر بلون نحاسي يعرف بـ "القمر الدموي"، وهي ظاهرة تكررت في التاريخ وأثارت الكثير من الخرافات.
خسوف القمر عبر التاريخ
منذ العصور القديمة، شكّل خسوف القمر لغزًا كبيرًا للإنسان. فالحضارات القديمة كانت تراه حدثًا خارقًا يرتبط بمعتقدات وأساطير، منها:
الصينيون القدماء كانوا يعتقدون أن تنينًا سماويًا يبتلع القمر.
البابليون ربطوا الخسوف بمصير الملوك والحكام.
المايا في أمريكا الوسطى رأوا فيه رمزًا لغضب الآلهة.
أما عند المسلمين، فقد تعاملوا مع الخسوف والكسوف بروحانية خاصة، معتبرينه آية من آيات الله تستدعي الخشوع، وقد شرع النبي ﷺ صلاة الخسوف والكسوف لتذكير المسلمين بعظمة الخالق.
البعد العلمي والفلكي
اليوم يُعتبر خسوف القمر فرصة ذهبية لعلماء الفلك لدراسة الغلاف الجوي للأرض، إذ أن الضوء المنكسر الذي ينعكس على القمر يحمل بصمة كيميائية عن مكونات الغلاف الجوي. كما يُستخدم الخسوف لقياس أبعاد فلكية، وفهم حركة القمر بدقة.
من الناحية العملية، فإن خسوف القمر أسهل رصدًا من كسوف الشمس، إذ يمكن مشاهدته بالعين المجردة دون الحاجة إلى أدوات حماية، ويُرى في مساحات واسعة من الأرض بخلاف الكسوف الشمسي الذي يقتصر على مناطق ضيقة.
خسوف القمر في القرآن الكريم والسنة النبوية
ورد ذكر الظواهر الكونية في القرآن الكريم كآيات تدل على عظمة الله، ومن ذلك قوله تعالى:
﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ﴾ [القيامة: 8].
وهذا يبين أن خسوف القمر ليس أمرًا عشوائيًا بل جزء من النظام الكوني الذي قدّره الله.
وفي السنة، روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ صلى صلاة الخسوف وقال:
"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة والدعاء."
وهذا التوجيه يُرسخ المعنى الإيماني للظاهرة، بعيدًا عن الخرافات والأساطير.
أشهر الخسوفات عبر التاريخ الحديث
شهد العالم العديد من الخسوفات المثيرة، منها:
خسوف 27 يوليو 2018: كان أطول خسوف كلي في القرن الحادي والعشرين، واستمر أكثر من 100 دقيقة.
الخسوف الكلي في 15 مايو 2022: ظهر بوضوح في الأمريكتين وأفريقيا وأوروبا.
كما يتكرر الخسوف بمعدل يتراوح بين مرتين إلى خمس مرات سنويًا (كلي أو جزئي أو شبه ظل).
البعد الثقافي والفني
ألهم خسوف القمر الشعراء والفنانين منذ القدم، فشبهوه بمشاهد الحزن أو الغياب، ورأوا في لونه الدموي رمزًا للغموض والمصير. وفي الأدب العربي، كان القمر رمزًا للجمال، فإذا خُسف اعتبروه استعارة عن غياب الأمل أو حلول الكوارث.
خاتمة
إن خسوف القمر –على جماله وهيبته– ليس مجرد عرض كوني يبهر الأبصار، بل هو آية من آيات الله تعالى التي تدعونا إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض. فكما قال سبحانه:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190].
وما الخسوف إلا تذكير بقدرة الله الذي يُسيِّر هذا الكون بنظام دقيق لا يختل، وإشارة للعبد بأن الدنيا فانية، وأن أعظم ما يُطلب هو رضا الله. لذلك علَّمنا النبي ﷺ عند حدوث الكسوف والخسوف أن نلجأ إلى الصلاة والذكر والدعاء، حتى يكون هذا المشهد السماوي بابًا لزيادة الإيمان، لا مجرد متعة بصرية.
فلنجعل من تأملنا في هذه الظواهر الكونية سبيلًا لتجديد يقيننا بأن الله هو المدبر الحكيم، ولنزداد خشوعًا وشكرًا له على أن جعل لنا في الكون دلائل تنطق بقدرته ووحدانيته.