انكماش المعرفة وتضخم الجهل

انكماش المعرفة وتضخم الجهل

0 المراجعات

العالم اليوم من حيث الحالة المعرفية يعيش على تركة علماء القرن التاسع عشر والثامن عشر؛ فلا تكاد تجد اكتشاف ولا ابتكار ولا اختراع  إلا وتعود جذوره ونشأته الى نتاج تلك الحقبة من العلماء؛ إنهم بمثابة الاب الثري الذي ترك لأبنائه ثروات ورثوها عنه؛ ولكن مالذي يجعل هذه الحقبة الزمنية الاكثر ازدهرا بالعلوم والمعارف وهي الفترة التي ترتفع فيها نسبة الامية ويقل فيها عدد سكان المدن الحضرية وهي الفترة التي اندلعت بها الحروب العالمية والكثير من الحروب الاهلية 

انها فترة ليست وردية بالمطلق ؛ الكثير من سكان العالم يعيشون خارج المدن وسكان المدن الحضرية هم الاقل ومستوى التعليم متدني والامية مرتفعة والاوبئة والامراض منتشرة ولا تكاد تجد زاوية من هذا العالم إلا ويعاني من الصراعات السياسية والحروب الاهلية والازمات الاقتصادية حتى البلدان الاوروبية الاكثر تطوراً بين شعوب العالم في تلك الحقبة ما ان انقشع دخان الحروب الاهلية حتى دخلوا في حربيين عالميتين اهلكت البشر ودمرت المدن وجعلت كل بناء قائم يتساوى مع ترابه ومابين الحربين اجتاح وباء الافلونزا الاسبانية ليزيد من حجم معاناة لاتحتمل الزيادة ؛ إذن مالذي يجعل تلك الحقبة الاكثر ازدهارا في العلوم والمعارف بينما نرى في عصرنا الحاضر مع انخفاض مستوى الامية وسهولة الحصول على المعلومة بضغط زر والتي كان يشد إليها الرحال في تلك الحقبة ومع وجود الوسائل المرئية والسمعية والبصرية التي تساهم في تبسط العلوم ووفرة الناشرين للمعرفة ومع كل هذا نرى هذا الاحتباس المعرفي الذي يشبه في تكوينه الاحتباس الحراري الذي يساهم في افساد المناخ والذي بدوره ينعكس بشكل سلبي على نمو الاشجار وجودة المحصول

لفهم هذه المفارفة نجد انها مرتبطة بالاجواء الثقافية التي ينمو فيها طالب العلم والمعرفة من مراحله التعليمية الاولى وحتى الجامعية ؛ لم يظهر في الفضاء الاجتماعي او الثقافة الشعبية  ضجيج شعبي ضد العلوم والمعارف تقوده تيارات رجعية محرضه؛ ولم تتوغل الرأسمالية خارج اطار قطاع المال والاعمال وبقيت خلف اسوار المصانع ولم تنفث الملوثات عبر دور النشر التي تهتم في طباعة الكتب التجارية والكتب الصفراء  او عبر اقامة الدورات والمحاضرات والاستثمار في العلوم الزائفة التي تنتحل صفة العلوم او ظهور صناع المحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي الباحيثن عن عوائد الاعلانات ولم تدفع الطبيعة الرأسمالية الى هوس الافراد في التنافس على الجاه والاضواء حتى اصبح الفاشل اكاديمياً يتولى رعاية خرافات لاتحتاج الى شهادات عليا ولا الى رحلة دراسية شاقة لكي يبثها عبر الجمهور ليحظى بمكانة المثقفين والمفكرين والعلماء

ولهذا ومن الطبيعي جدا ان تكون جودة العلماء في تلك العصور افضل ؛ لان انسان القرن الثامن عشر والتاسع عشر يعيش في اجواء صحية منذ نشأته الابتدائية وحتى مرحلة الاستاذية؛ فمنذ طفولته ومراهقته ومطلع شبابه لايجد امامه وسائل تعليمية تلبي فضول المعرفة لديه الا المكتبات والمكتبات غير مربحة للمستثمرين وغير متاحه لكل الناس بسبب ضعف قدراتهم المالية فهي ذات محتوى نقي من الكتب التجارية والكتب الصفراء وشبه خالية من العلوم الزائفة ؛ كما ان هذا الفتى ينشط في محيط اجتماعي بعيد عن ادراك العلوم فلا تجد العامي والجاهل يتحدث عن مالا يحيط به معرفياً ولا تجد من الاصولين من يتهم في محتوى العلوم والمعارف ليقوم بتوظيفها لصالح ايدولوجيته بالتحريف والتخريف والتحصيف فهذا مايختلف عنه انسان الامس عن انسان اليوم الذي يحمل بحجم سلسلة جبال السروات وبطول وعرض قمة افرست من المعلومات الخاطئة والتصورات الغير صحيحة والتي تساهم في حرف طريقة تفكيره الى طريقة غير علمية ولا تساعده في الانتاج فضلا عن الابداع ؛ يحتاج الى ان يقضي نصف عمره او زيادة لكي يستطيع تصحيح تلك التراكمات الهائلة من المغالطات التي ورثها عبر الاعلام المرئي والمقروء والمسموع ووسائل التواصل الاجتماعي ودور النشر وعبر جيوش من ناشري الخرافات والعلوم الزائفة ومهلوسي نظريات المؤامرة ؛

ان هؤلاء بمثابة المصانع النافثة للكربون في الاجواء والمسببة للاحتباس الحراري التي يتضرر منها كل نبات مزهر ومثمر  مما ينعكس على التقدم العلمي والمعرفي لكل أمة؛ ولان التقدم العلمي والمعرفي يمكن ان يزدهر في اي أمة حتى وان كانت تعاني من بعض الامية وسوء الاقتصاد والتخلف الاجتماعي كما نشاهد حالة العالم في القرنيين السابقين لم تتعطل مسيرة الزحف المعرفي وكما نشاهد اليوم جهل المجتمعات الغربية وتعلّقها بالخرافات لم يعيق تقدم الغرب وكما نحن امة العرب لن يعيق التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تقدم العلوم المعارف اذا توفر الشرط الوحيد  وهو حماية الاجيال من المعارف الضارة كما فعلت الصين عندما اصدرت قانون مكافحة العلوم الزائفة وقامت بمعاقبة الناشرين والمستثمرين والمروجين للعلوم الزائفة واحدث نقلة نوعية في الصين استفادت منها في العقود الاخيرة

الصين التي كانت دولة اغلب شعبها مزارعين والامية عالية بين اوساطهم وعبر عقود من الزمن تحتضن الافكار الشيوعية تحولت بعد ذالك من دولة تسرق براءات الاختراع وتقدم المنتجات السيئة الى دولة لديها في كل مجالات الابحاث من الذرة الى المجرة علماء رائدون يديرون تلك المراكز بأقتدار ومن المتوقع مستقبلاً ان يصبح لديها علماء يضيفون المزيد للعلوم والمعارف كما اضاف الغربيون في القرنين  الثامن والتاسع عشر؛ هذه النتائج السريعة والتحول السريع في الصين ثمرة الحماية التي قدمتها الحكومة الصينية للاجيال الناشئة لم ترضى بضياع مليارات الدولارات التي انفقتها على التعليم وتطوير بناه التحتية دون حماية للنشء فأصبح الطالب الصيني ينمو في اجواء صحية ساعدته بأن يصبح عقل نافع لامته ووطنه وللعلم

وهذا مانحتاجه في عالمنا العربي حماية النشء من مروجي الخرافات والعلوم الزائفة ومهلوسي نظريات المؤامرة واصدار قوانين مكافحة لها تتبناها جامعة الدول العربية وتقوم جميع الدول العربية بالعمل عليها حتى يعود التعليم بالفائدة على النشء وعلى مستقبل اوطننا العربية

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

articles

1

followers

1

followings

1

مقالات مشابة