في الظلام بين اليأس والأمل

في الظلام بين اليأس والأمل

0 المراجعات

الكلمة الأولى هي الأهمّ، تمامًا مثل الكأس الأولى عند السكارى. هذا الطقس الليلي الصنعاوي ملائم جدًّا للرقص والبكاء والصمت. أظنّك تعشق صنعاء، مثلي. لا تقلق. بشرفي أن لا ضوء في غرفتي سوى ضوء شاشة موبايلي، سنوات من الظلام جاثية على صدورنا، لكنّي الآن أراك أمامي، قريبًا منّي، أجدك شامخًا بكل بهاء، كعادتك، دَعني أعانقك بروح الكتابة، لأن العناق بالكتابة لا يموت البتة، ها أنت، يا شروح، أقرب إليَّ من قلقي الحزين، هذا القلق الذي يعصف بي دومًا، وها أنا أتخلّص منه ومن يأسي، شيئًا فشيًا من خلال استئناسي بنبض أملك الحقيقي.

ليس هذا زمن الرواية دون الشعر، بل إنه زمن الشعر أيضًا، فالشعر يفرض نفسه في كل زمان ومكان، لن نقلق عليه، والحقيقة أنه زمن كل شيء، وتجيء التفاهة في مقدمة كل هذا. ومن جهة أخرى، قد يكون هذا عصر سقوط جميع الأقنعة اللعينة، كما آمل. يُقال من زمان: ليس من قناع يطول لبسه! فما هو مغشوش الآن، سينفضِح غدًا لا محالة ولو تخفّى وراء ألف قناع. ومن أسوأ رذائل هذه الحرب، أنها حوّلت كثيرين من الناس إلى أدعياء، أدعياء كتابة وأدب، أدعياء ثقافة وسياسة وحداثة، أدعياء حتى في الوطنية، أدعياء في كل شيء، وعلى كل صعيد، وسننتظر ظهور المزيد منهم في الساعات والأيام القادمة ونُرحِّب بهم مع التصفيق الشديد. وكلما زاد عددُ الأدعياء زاد من حولك صخبُ البؤس وغُبارُ الانحطاط وسيلُ التفاهات، آهِ من خطر المنصّات والمنابر التي فتحتْ أبوابَها لمن هبَّ ودبَّ!

أنت تكتب مقالة أو رواية وهو يقصفك بقذيفة، بصاروخ، بأي سلاح. هو لا يقرأ كتاباتك ولا يحب الفن والأدب، لكنه يقتلك في كلماتك، أو بها، ويقتل كلماتك فيك، هذا الشبح الظلامي فوجوده من أصله عدوانٌ شرس على حياتك وقلمك ومستقبَلك، إنه لا يسمح لك أن تكون كاتبًا حُرًّا ناجحًا، أو حتى مجنونًا سعيدًا في بيتك، فعفُونته المتوحشة الطافحة تطارد عذوبتك الزكيّة في كل شوارع الوطن، لكنك أقوى وأشرف من حربه عليك. لمجرد أنك كاتب موهوب، أو فنان يعشق الحياة، يقتلك وطنك أو يقتلك المتسلِّطون عليه، وها هم يقتلون كل شيء. كارثة أن تولد كاتبًا، وكارثة أسوأ أن تتخلى عن قلمك في هذا الجحيم. أرجوك، تمسَّك بقلمك الجميل، دعه يكتُبْ بشغف وحرية إلى الأبد، فكلما قتلوك ازداد قلمك اشتعالًا وجمالًا وعُمقًا، تلك هي معجزة الروح الكاتبة. القاتل ضعيف وأعمى وبغيض، لأن لا عُمْقَ له. أمّا أنت فأعماقك هي أعماق اللغة والإنسانية والحياة، معًا. أثِقُ بك دون حدود.

بلا شك هذه الحياة حلوة. طبعًا أنا يجرح قلبي الذي يسرق ولّاعتي، سأسامح السارق في كل شيء، شريطةَ ألّا يسرقني ولاعتي الحبيبة. اسرقوا وطني واتركوا ولاعتي فقط. لصوص الولّاعات تكاثروا في البلاد وأصبحوا منتشرين في كل مكان. والولاعة الأنيقة التي أهدانيها ذات يوم صديقي الغالي الشاعر الجميل عبدالمجيد التركي، أذكُرُ أنها سُرِقتْ في الباص بعد ساعتين من حصولي عليها، فقد كان أحد الأوغاد جالسًا في مقعده بجانبي وطلبها مني ليشعل سيجارته ثم وضعها في جيبه واختفى بلمحة البصر، حتى إنه لمْ يترك لي أثرًا منها على مقعده الفارغ. لقد اختفى بها ولم يقل شكرًا. واليومَ سرق ولّاعتي وغد آخر وكان بهيَّ الوجه أنيقَ المظهر. سأسحقه لو لقيته غدًا في طريقي وأبصق على يده وجيبه وسيجارته. أغلبية اللصوص في العالم يبالغون في تأنيق مظهرهم وتنميق أحاديثهم. أنت تعلم أن التدخين مُضِرّ بالصحة ولكن دعني أدخن بشراهة مخيفة، كعادتي، وباستمرار. ولكنك، بالتأكيد، تعلم أيضًا أن الصحة الجيّدة تدمِّرُ شغف الكاتب، وتُفسِد أوهامه وجنونه، وتُفقِده قدرته على الكتابة الساخرة والساخطة والمتمردة.

أنا لا يحزنني أنني لم أكتب قصيدة واحدة منذُ ثلاثة أشهر. القصيدة الجميلة تأتي بعد مخاض عسير. لكن الشاعر الذكي لا ينتظرها بل يذهب إليها وهو بكامل كيانه وجنونه. لا تُصدِّقني، فأنا أردأ شاعر في البلاد. يا صاحبي، ما أجملَ العيشَ في سهلة المهملات، حيثُ أعيش أنا منذُ عدة سنوات. هنا شيء من الهدوء على الأقلّ. إنها تجربة سيئة في نظر العالَم، هذا صحيح، ولكنها تجعل القلب يزهر، وينسجم مع النفْس، ويتناغم مع موسيقى الحياة. هنا، وكالعادة من حولي ضوضاء صُراخيّة جماعيّة قبيحة تسعى إلى الموت لا الحياة. اللعنة. تُبًّا. كلانا بخير، أنت وأنا، هذا ما أشعر به الآن. بل دعنا نحاول أن نكون بخير ولو لساعة فقط. وبالطبع ما زلتُ أرجو أن تستقيم حالتي وتتحسن ظروفي لكي أزورَك في مأرب، فكم أحب هذه المحافظة الشريفة الصامدة، مع أنني حتى الآن لم ألمسْ ترابها قط، لمْ أعانقْ عطرها العريق الحُرّ، ولكن لا بد من أن أهبط فيها يومًا ما، ضيفًا عليك، وأعانقكما دفعة واحدة، وأتنفّس في شوارعها، بصحبتك، هواءها الجمهوري الكريم، ونكتب عنها نَصًّا مشترَكًا عالي الجودة يُحلِّق بها في فضاءات جديدة.

الكاتب الذي يكتب عن كل شيء وينسى أو يتناسى حارته أو قريته أو أُمّه أو تفاهته، فهذا ليس كاتبًا جديرًا باحترامي. وأنت كاتب من النوع الذي أحبه وأمنحه احترامي بكل سرور. وظنّي أنّ الكاتب الحيّ والصادق هو الذي يكتب عن فوضى المكان الذي يعيش فيه، قبل أن يكتب عن الفضاءات البعيدة، أو عن الموضوعات غير الموجودة في واقعه. أمّا أنا، كما تعرف، فقد كنتُ دائمًا أكتب عن الأشياء المختلطة بأنفاسي، عن تفاصيل حياتي اليومية، عن هموم أهلي وأصدقائي البؤساء، وكم كتبتُ عن تفاهاتي وهي لا تُحصى، وها أنا أكتبُ عن قاع قلبي لا عن عنان السماء، وأكتب عن سفينتي التي تغرق الآن، لا عن سفينة نوح، وسأظل أكتب عن حياتنا القاسية والتافهة إلى يوم أموت. ثُمِّ، وأخيرًا، ماذا تريدني أن أقول أكثر من هذا؟ هات جوابك الشافي، إنّي بانتظارك وملء القلب لهفة ومحبة.

 

 

 

 

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

2

متابعين

7

متابعهم

1

مقالات مشابة